أحكام الحواس الخمس دراسة فقهية مقارنة معاصرة (33)
قال تعالى: ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾[الزمر: ٩]، وعن مُعَاوِيَةَ بنِ أَبـِي سُفْيَانَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ’مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ‘. فإن خير ما يشتغل بـه الإنسان معرفة الحلال والحرام من الأحكام، وعلم الصحيح من الفاسد من الأعمال؛ وعلم الفقه هو الذي أخذ على عاتقه في بيان ذلك، فقد بذل العلماء الغالي والرخيص في سبيل نيل شرف هذه الخيرية، فقعّدوا القواعد ونظموا المسـائل وكتبوا المتون والشروح والحواشي، فكان من نتاج عقولهم إرث فقهي ما كان لأمة غير أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن تأتي بمثله، فَحُقّ للمسلم أن يفخر به وأن يستنهض الهمم في خدمته.
ولا يخفى على أحد مدى اهتمام الشـريعة الإسلامية بالإنسان بوصفه حاملَ الرسالة ومُبَلّغَها، فشَرَّعَتْ من الأحكام ما يحفظ حياته ويصون كرامته، فكان حفظ الحياة حقاً أساسياً من حقوقه، إلى جانب كثير من الحقوق الأخرى التي يستطيع بها أداء واجبه في هذه الحياة.
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾[التين:٤]، خلق الله الإنسان كامل الأعضاء والحواس، فجعله في أفضل هيئة وأكمل صورة، واستودعه طاقات وغرائز وشهوات ودوافع للخير ودوافع للشر، ثم أرشده إلى تقويم تلك الغرائز والشهوات والدوافع ليحفظ أعضاءه وحواسه، فسما المسلم إلى أعلى درجات السمو البشري، وتعالى على غرائزه البهيمية التي تحيا لإشباع تلك الغرائز، فهذّب هذه الغرائز وقيدّها بقيود الدين القويم والأخلاق الكريمة، وأباحها ونظّمها في حدود ما شَرَعَه، فقد كان من رحمة الله وتيسيره على عباده أن تكفّل بكل التشريعات التي تخص الإنسان وتنظم علاقته مع خالقه ومع غيره من الناس بمختلف الجوانب، قال تعالى: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾[الأنعام:٣٨].
وما إن تحقق حلمي بالالتحاق بالدّراسات العليا حتى أخذت أفكر في موضوع للدراسـة، ولما في نفسي من حب للفقه الإسـلامي وميل للبحث في مسائله كان اختياري لموضوع أحكام الحواس الخمس؛ دراسة فقهية مقارنة معاصرة.
وتبرز أهمية هذا الموضوع من عدة جوانب:
ـ الحواس الخمس: هي عبارة عن أجهزة استلام وتسليم، تنقل الأحداث التي تدور في المحيط الخارجي إلى الدماغ، وبدون هذه الحواس لا تتولد الأحاسيس والشهوات في الإنسان العاقل، فبغير أعصاب الجلد لا يتولد الإحساس بالألم، وبدون العين والأذن لا يرى ولا يسمع الأحداث المحيطة ولا يتفاعل معها.
ـ الحواس نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى على الإنسان، بوصفها وسيلة التواصل بينه وبين الأشياء من حولـه، وهي وسائل الإدراك المباشر في الإنسان، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾[النحل: ٧٨].
ـ وهي وسيلة إلى علم نافع وفكر مدبر وقلب واعٍ، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾[الإسراء:٣٦]. وهي منطلق الإنسان نحو المعرفة، وقد دعا القرآن الكريم الناس إلى استعمالها ليصلوا عن طريقها إلى العلم النافع في مجال الدين والدنيا، فقد أمر سبحانه الإنسان أن ينظر إلى نفسه وإلى ما حوله، قال تعالـى: ﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾[الذاريات: ٢١]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {77} وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ﴾[عبس: ٢٤ ـ ٣٠]. كما دعاه إلى حسن استخدام حاسة السمع لكي يدرك من خلالها المسموعات فيقبل منها الحسن، ويطرح سـواه، قـال تعـالى: ﴿ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ {73} فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ ﴾ [النحل: 73 ـ 74]، إن الإسلام جعل الإدراكات الحسية أساساً تقوم عليه المعارف، ولكن الحواس لا تحقق وحدها المعرفة المطلوبة؛ لأنّ العلم في المنهج الإسلامي يتم بتفاعل بين الحواس والعقل. فإن لكل حس دوره في التحصيل المعرفي لكن بدرجات متفاوتة، وتبقى المعرفة أولية تحتاج إلى ما يعينها لترتقي إلى مستوى الفهم والإدراك، والعقل هو المعين للحواس في العملية المعرفية.
ـ وهي أمانة استودعها الله لدى الإنسان واختبره بها، وبين سبحانه تعظيماً لشأن الحواس أنها ستشهد عليه يوم القيامة بما مارسه من خلالها من أعمال لا ترضيه، قـال تعالـى: ﴿} وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾[فصلت: ٢٢].
وكان وراء اختيار هذا البحث دوافع عدة أهمها ما يلي:
1 ـ تجربتي مع الصم، فقد عملتُ متطوعة في جمعية الصم الخيرية، وطَلَبَتْ مني أن أُحدّث الطالبات عن الحج وكانت أيامه، وبدأت بالحديث إلا أن إشارتي كانـت تخونني فتنحيت جانبـاً، وأخذت إحدى المتطـوعات القديمـات تحدثهم بإشارتها، وأنا أخبرها بأحكام الحج، فكانت عيون الطالبات الصماوات تنظر إليها بشغف، مما أشعرني بالارتباك أني أحدثهم ولا أحد ينظر إلي، فأحببت أن أقوي إشارتي لأشرح لهم أكثر ولأدخل عالمهم، وعندما أنهينا الحديث طلبن مني أن أصلي فيهن صلاة الظهر، فوقفت بالوسط، ومن خلفي صفان من الطالبات، وعندما كَبَّرْتُ ورفعت يدي إلى أذنيّ نظرنّ إلي وبدأن بالصلاة، فسـمعت لغطهنّ وهنّ يحاولنّ إخراج الأصوات بالتلفظ بالقرآن على قدر استطاعتهنّ، وعند سجودي كانت الطالبة التي خلفي تماماً قد ألصقت رأسها بأسفل قدمي، لتشعر بي إذا انتقلت، لتقوم ويقوم الصف معها، والصف الثاني يفعل الشيء نفسـه في الصف الأول، فصارت هذه الحادثة دافعاً لي لأتعرف أحكام الصم وطريقة عبادتهم، ورُخَصَ الله فيهم، وبعد بحث وتنقيب وسؤال أهل الخبرة هديت إلى هذا الموضوع.
2 ـ الحواس مصدر للمعرفة وطريق لها، فالحـس منافذ المعرفة إلى نفس الإنسان، معارفه كلها مبنية على ما رآه وسمعه ولمسه وشمه وتذوقه.
3 ـ وإن تعلم أحكام الحاسـة بحالـة وجودها أمر ضروري مسـلَّم بأهميتـه لارتباطه بأمور كثيرة في الحياة، وله آثار كبيرة في العبادات والأحوال الشـخصية والمعاملات، وتعلم أحكام الحاسة بحال نقصانها أو فقدانها أمر ضروري أيضاً؛ لارتباطها بأمور كثيرة في الحياة، ولها آثار كبيرة في العبادات والأحوال الشخصية والمعاملات، وكذلك لا بد للمسلم من تعلمها والسؤال عنها عند الحاجة إليها.
* أهداف الموضوع:
أ ـ التقرب إلى الله بعمل ألتمس فيه مرضاته سبحانه وتعالى، وخدمة شرعه الحنيف، ولأنال شرف كوني طالبة علم.
ب ـ زيادة التحصيل العلمي.
ج ـ حاجة الناس إليه؛ إذ لا يوجد مكان إلا وفيه عدد من فاقدي البصـر أو السـمع أو الشم أو الذوق أو اللمس، وهؤلاء يحتاجـون إلى معرفة أحكام دينهم ودنياهم في جميع شؤون حياتهم، في بحث يسهل الاطلاع عليه والانتفاع به.
* مشكلة البحث:
قد يُوْلَدُ الإنسان فاقد حاسة من حواسه، أو قد يكتسب هذه الإعاقة في أثناء حياته لأسباب كثيرة، فما الأحكام المنوطة به؟ وما الأحكام الشرعية التي يتفق فيها مـع معافى البدن؟ وما الأحكام التي يختص بهـا؟ وما حكم عبادة فاقـد الحاسـة ومعاملاتـه وأحواله الشـخصية وجناياته والجناية عليـه؟ وكيف عالجت الشـريعة الإسلامية أحكامه؟
* حدود البحث:
اختصت هذه الدراسة أحكام الحواس الخمس وحدها دون غيرها، فلم تدرس الحاسة السادسة؛ لعدم تعلق الأحكام الفقهية بها، أو الإحساس بالجوع أو بالخوف أو القلق وما إلى ذلك، واعتمدت الدراسة على المذاهب الفقهية الأربعة.
* الدراسات السابقة:
من الدراسات المعاصرة التي درست أجزاء من هذه الرسالة أحكام الحواس الخمس، واستفادت الباحثة من تقسيماتها وبعض تفصيلاتها:
ـ أحكام المعاقين دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون المصري: د. محمد سمير أحمد عطية.
ـ أحكام الأعمى في الفقه الإسلامي: د. محمد بن عمر الشماع.
ـ أحكام الأخرس في الفقه الإسلامي: ليلى عبدالله محمد عبدالله.
لم تخلُ هذه الدراسات من نقص في نقل أقوال الفقهاء، كما كان ثمة جوانب لا بد من التوسـع فيها، والاختصار في جوانب أخرى لا تفيد البحث، وقد وقف البحث على جوانب لم تتعرض لها هذه الدراسات، بالإضافة إلى أنّ هذه الدراسات عنيت كل منها بدراسة جزء من الحاسة وهي حالة الفقد دون الوجود.
* المنهج المتبع:
ومنهج الباحثة في هذا البحث مأخوذ من طبيعة الموضوع حيث اقتضى البحث الاعتماد على المسلك الاستقرائي والتحليلي المقارن.
* أدوات البحث:
سلكت الباحثة في هذا البحث منهجاً يمكن توضيح معالمه في النقاط الآتية:
* ذكرت التعاريـف اللغويـة والشرعية لكل موضـوع بالرجـوع إلى الكتب المعتمدة في اللغة والشرع.
*سلكت مسلك الجمع والترتيب والمقارنة بين أقوال فقهاء المذاهب الأربعة مراعية الترتيب الزمني مبتدئة بالمذهب الحنفي ثم المالكي ثم الشافعي ثم الحنبلي وفق الأقدم، ثم رجحت الباحثة ما ظهر فيه الخلاف بعد ذكر خلاصة القول إن لم يكن للمجمع الفقهي قرار في المسألة المدروسة.
* اعتمدت في النقل عن المذاهب الأربعة من كتبهم المعتمدة مراعية ترتيبها في الهامش على حسب الأقدم؛ لأن المتأخر أخذ من المتقدم غالباً.
* وذكرت اسم الكتاب في الهامش كاملاً عند وروده أول مرة، وبعد ذلك اكتفيت بذكر اسم الكتاب ومؤلفه.
* وعزوت الآيات بذكر اسم السورة ورقم السورة ورقم الآية.
* خرّجت الأحاديث والآثار الواردة عن الصحـابة من مراجعها الأصليـة، واتبعت المنهج الأتي:
1 ـ إذا كان الحديث ورد في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بذلك.
2 ـ أما إن لم أجده في الصحيحين أو أحدهما فقد اعتمدت السنن الأربعة، فإذا وجدتها فيها أو بأحدها اكتفيت به.
3 ـ فإذا لم أجده في السنن الأربعة أو بأحدها اعتمدت المسانيد والمصنفات، وكنت أتوسع حسب ما تقتضيه الحاجة.
4 ـ واعتمـدت في الحكم على الحديث على أقـوال العلـماء الـواردة في المصنفات وكتب التخريج أو الشروح أو دراسات العلماء المعاصرين، فإن لم أجد درست السند.
* وترجمـت للأعلام الذين ورد ذكرهم ترجمة مختصرة ما عدا المشـاهير منهم: الصحابة وأمهات المؤمنين ورواة الحديث والأئمة الأربعة.
*شرحت معاني الكلمات الغامضة من كتب اللغة أو من كتب غريب الحديث إذا كان اللفظ وارداً في الحديث، أو من الكتب العلمية المختصة وضبطتها بالشكل.
* واعتمدت الإشارات والرموز الآتية في البحث:
* الإشارات:
1 ـ ﴿ ﴾ للآيات.
2 ـ ’ ‘ قول النبي صلى الله عليه وسلم.
3 ـ [ ] القوسين المعكوفين لحصر اسم السورة: ورقم السورة: ورقم الآية.
4 ـ (/) لحصر الجزء والصحيفة.
5 ـ ’ ‘ لحصر الكلام المقتبس.
6 ـ ... دليل الحذف.
7 ـ = للفصل بين التاريخ الهجري والميلادي.
* الرموز:
8 ـ أ: أستاذ.
9 ـ ت: توفي.
10 ـ د: دكتور.
11 ـ د. ت: دون تاريخ.
12 ـ د. د: دون دار.
13 ـ د. ط: دون طبعة.
14 ـ د. م: دون مدينة.
15 ـ ص: الصحيفة.
16 ـ ط: الطبعة.
17 ـ م: ميلادي ومهندس.
18 ـ ﻫ: هجري.
* عملت فهارس تفصيلية لمحتويات الرسالة وهي كالآتي:
1 ـ فهرس الآيات الكريمة ورتبته حسب ورودها في المصحف.
2 ـ فهرس الأحاديث والآثار ورتبته حسب الحروف الهجائية.
3 ـ فهرس الأعلام والتراجم ورتبته حسب الحروف الهجائية.
4 ـ فهرس المصادر والمراجع، ورتبت القرآن الكريم أولاً، ثم كتب التفسير، ثم السنة وشروحها، ثم أصول الفقه، ثم القواعد الفقهية، ثم الكتب الفقهية، مرتبة كل مذهب على حِدة، مبتدئة بالحنفية، ثم المالكية، ثم الشافعية، ثم الحنابلة، ثم الفقه العام والمعاصر، ثم الكتب العلمية المختصة بموضوع البحث، ثم كتب اللغة، ثم كتب التراجم، ثم أسماء المواقـع التي استخدمت على الشابكة، مع ملاحظـة الترتيب الهجائية عند كتب كل علم.
5 ـ فهرس المحتوى ويضم ما دُرس في هذا البحث.
* الصعوبات التي واجهت الباحثة:
لا يخلو بحث يُدْرَس من صعوبات يجدها الباحث، فكثيراً ما تحتاج كتب الأقدمين إلى الصبر على فهمها، فكنت أجد مثلاً في أمهات الشافعية أراء للحنفية والمالكية وبالعكس، مما يصعب أحياناً استخلاص رأي صاحب المذهب في هذه الآراء، ومنها تعدد آراء المذهب الواحد في المسألة الواحدة، واستخلاص ترجيح لرأي دون آخر من الصعوبات.
ولا يخفى على أحد مدى اهتمام الشـريعة الإسلامية بالإنسان بوصفه حاملَ الرسالة ومُبَلّغَها، فشَرَّعَتْ من الأحكام ما يحفظ حياته ويصون كرامته، فكان حفظ الحياة حقاً أساسياً من حقوقه، إلى جانب كثير من الحقوق الأخرى التي يستطيع بها أداء واجبه في هذه الحياة.
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾[التين:٤]، خلق الله الإنسان كامل الأعضاء والحواس، فجعله في أفضل هيئة وأكمل صورة، واستودعه طاقات وغرائز وشهوات ودوافع للخير ودوافع للشر، ثم أرشده إلى تقويم تلك الغرائز والشهوات والدوافع ليحفظ أعضاءه وحواسه، فسما المسلم إلى أعلى درجات السمو البشري، وتعالى على غرائزه البهيمية التي تحيا لإشباع تلك الغرائز، فهذّب هذه الغرائز وقيدّها بقيود الدين القويم والأخلاق الكريمة، وأباحها ونظّمها في حدود ما شَرَعَه، فقد كان من رحمة الله وتيسيره على عباده أن تكفّل بكل التشريعات التي تخص الإنسان وتنظم علاقته مع خالقه ومع غيره من الناس بمختلف الجوانب، قال تعالى: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾[الأنعام:٣٨].
وما إن تحقق حلمي بالالتحاق بالدّراسات العليا حتى أخذت أفكر في موضوع للدراسـة، ولما في نفسي من حب للفقه الإسـلامي وميل للبحث في مسائله كان اختياري لموضوع أحكام الحواس الخمس؛ دراسة فقهية مقارنة معاصرة.
وتبرز أهمية هذا الموضوع من عدة جوانب:
ـ الحواس الخمس: هي عبارة عن أجهزة استلام وتسليم، تنقل الأحداث التي تدور في المحيط الخارجي إلى الدماغ، وبدون هذه الحواس لا تتولد الأحاسيس والشهوات في الإنسان العاقل، فبغير أعصاب الجلد لا يتولد الإحساس بالألم، وبدون العين والأذن لا يرى ولا يسمع الأحداث المحيطة ولا يتفاعل معها.
ـ الحواس نعمة عظيمة من الله سبحانه وتعالى على الإنسان، بوصفها وسيلة التواصل بينه وبين الأشياء من حولـه، وهي وسائل الإدراك المباشر في الإنسان، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾[النحل: ٧٨].
ـ وهي وسيلة إلى علم نافع وفكر مدبر وقلب واعٍ، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾[الإسراء:٣٦]. وهي منطلق الإنسان نحو المعرفة، وقد دعا القرآن الكريم الناس إلى استعمالها ليصلوا عن طريقها إلى العلم النافع في مجال الدين والدنيا، فقد أمر سبحانه الإنسان أن ينظر إلى نفسه وإلى ما حوله، قال تعالـى: ﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾[الذاريات: ٢١]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {77} وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ﴾[عبس: ٢٤ ـ ٣٠]. كما دعاه إلى حسن استخدام حاسة السمع لكي يدرك من خلالها المسموعات فيقبل منها الحسن، ويطرح سـواه، قـال تعـالى: ﴿ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ {73} فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ ﴾ [النحل: 73 ـ 74]، إن الإسلام جعل الإدراكات الحسية أساساً تقوم عليه المعارف، ولكن الحواس لا تحقق وحدها المعرفة المطلوبة؛ لأنّ العلم في المنهج الإسلامي يتم بتفاعل بين الحواس والعقل. فإن لكل حس دوره في التحصيل المعرفي لكن بدرجات متفاوتة، وتبقى المعرفة أولية تحتاج إلى ما يعينها لترتقي إلى مستوى الفهم والإدراك، والعقل هو المعين للحواس في العملية المعرفية.
ـ وهي أمانة استودعها الله لدى الإنسان واختبره بها، وبين سبحانه تعظيماً لشأن الحواس أنها ستشهد عليه يوم القيامة بما مارسه من خلالها من أعمال لا ترضيه، قـال تعالـى: ﴿} وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾[فصلت: ٢٢].
وكان وراء اختيار هذا البحث دوافع عدة أهمها ما يلي:
1 ـ تجربتي مع الصم، فقد عملتُ متطوعة في جمعية الصم الخيرية، وطَلَبَتْ مني أن أُحدّث الطالبات عن الحج وكانت أيامه، وبدأت بالحديث إلا أن إشارتي كانـت تخونني فتنحيت جانبـاً، وأخذت إحدى المتطـوعات القديمـات تحدثهم بإشارتها، وأنا أخبرها بأحكام الحج، فكانت عيون الطالبات الصماوات تنظر إليها بشغف، مما أشعرني بالارتباك أني أحدثهم ولا أحد ينظر إلي، فأحببت أن أقوي إشارتي لأشرح لهم أكثر ولأدخل عالمهم، وعندما أنهينا الحديث طلبن مني أن أصلي فيهن صلاة الظهر، فوقفت بالوسط، ومن خلفي صفان من الطالبات، وعندما كَبَّرْتُ ورفعت يدي إلى أذنيّ نظرنّ إلي وبدأن بالصلاة، فسـمعت لغطهنّ وهنّ يحاولنّ إخراج الأصوات بالتلفظ بالقرآن على قدر استطاعتهنّ، وعند سجودي كانت الطالبة التي خلفي تماماً قد ألصقت رأسها بأسفل قدمي، لتشعر بي إذا انتقلت، لتقوم ويقوم الصف معها، والصف الثاني يفعل الشيء نفسـه في الصف الأول، فصارت هذه الحادثة دافعاً لي لأتعرف أحكام الصم وطريقة عبادتهم، ورُخَصَ الله فيهم، وبعد بحث وتنقيب وسؤال أهل الخبرة هديت إلى هذا الموضوع.
2 ـ الحواس مصدر للمعرفة وطريق لها، فالحـس منافذ المعرفة إلى نفس الإنسان، معارفه كلها مبنية على ما رآه وسمعه ولمسه وشمه وتذوقه.
3 ـ وإن تعلم أحكام الحاسـة بحالـة وجودها أمر ضروري مسـلَّم بأهميتـه لارتباطه بأمور كثيرة في الحياة، وله آثار كبيرة في العبادات والأحوال الشـخصية والمعاملات، وتعلم أحكام الحاسة بحال نقصانها أو فقدانها أمر ضروري أيضاً؛ لارتباطها بأمور كثيرة في الحياة، ولها آثار كبيرة في العبادات والأحوال الشخصية والمعاملات، وكذلك لا بد للمسلم من تعلمها والسؤال عنها عند الحاجة إليها.
* أهداف الموضوع:
أ ـ التقرب إلى الله بعمل ألتمس فيه مرضاته سبحانه وتعالى، وخدمة شرعه الحنيف، ولأنال شرف كوني طالبة علم.
ب ـ زيادة التحصيل العلمي.
ج ـ حاجة الناس إليه؛ إذ لا يوجد مكان إلا وفيه عدد من فاقدي البصـر أو السـمع أو الشم أو الذوق أو اللمس، وهؤلاء يحتاجـون إلى معرفة أحكام دينهم ودنياهم في جميع شؤون حياتهم، في بحث يسهل الاطلاع عليه والانتفاع به.
* مشكلة البحث:
قد يُوْلَدُ الإنسان فاقد حاسة من حواسه، أو قد يكتسب هذه الإعاقة في أثناء حياته لأسباب كثيرة، فما الأحكام المنوطة به؟ وما الأحكام الشرعية التي يتفق فيها مـع معافى البدن؟ وما الأحكام التي يختص بهـا؟ وما حكم عبادة فاقـد الحاسـة ومعاملاتـه وأحواله الشـخصية وجناياته والجناية عليـه؟ وكيف عالجت الشـريعة الإسلامية أحكامه؟
* حدود البحث:
اختصت هذه الدراسة أحكام الحواس الخمس وحدها دون غيرها، فلم تدرس الحاسة السادسة؛ لعدم تعلق الأحكام الفقهية بها، أو الإحساس بالجوع أو بالخوف أو القلق وما إلى ذلك، واعتمدت الدراسة على المذاهب الفقهية الأربعة.
* الدراسات السابقة:
من الدراسات المعاصرة التي درست أجزاء من هذه الرسالة أحكام الحواس الخمس، واستفادت الباحثة من تقسيماتها وبعض تفصيلاتها:
ـ أحكام المعاقين دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون المصري: د. محمد سمير أحمد عطية.
ـ أحكام الأعمى في الفقه الإسلامي: د. محمد بن عمر الشماع.
ـ أحكام الأخرس في الفقه الإسلامي: ليلى عبدالله محمد عبدالله.
لم تخلُ هذه الدراسات من نقص في نقل أقوال الفقهاء، كما كان ثمة جوانب لا بد من التوسـع فيها، والاختصار في جوانب أخرى لا تفيد البحث، وقد وقف البحث على جوانب لم تتعرض لها هذه الدراسات، بالإضافة إلى أنّ هذه الدراسات عنيت كل منها بدراسة جزء من الحاسة وهي حالة الفقد دون الوجود.
* المنهج المتبع:
ومنهج الباحثة في هذا البحث مأخوذ من طبيعة الموضوع حيث اقتضى البحث الاعتماد على المسلك الاستقرائي والتحليلي المقارن.
* أدوات البحث:
سلكت الباحثة في هذا البحث منهجاً يمكن توضيح معالمه في النقاط الآتية:
* ذكرت التعاريـف اللغويـة والشرعية لكل موضـوع بالرجـوع إلى الكتب المعتمدة في اللغة والشرع.
*سلكت مسلك الجمع والترتيب والمقارنة بين أقوال فقهاء المذاهب الأربعة مراعية الترتيب الزمني مبتدئة بالمذهب الحنفي ثم المالكي ثم الشافعي ثم الحنبلي وفق الأقدم، ثم رجحت الباحثة ما ظهر فيه الخلاف بعد ذكر خلاصة القول إن لم يكن للمجمع الفقهي قرار في المسألة المدروسة.
* اعتمدت في النقل عن المذاهب الأربعة من كتبهم المعتمدة مراعية ترتيبها في الهامش على حسب الأقدم؛ لأن المتأخر أخذ من المتقدم غالباً.
* وذكرت اسم الكتاب في الهامش كاملاً عند وروده أول مرة، وبعد ذلك اكتفيت بذكر اسم الكتاب ومؤلفه.
* وعزوت الآيات بذكر اسم السورة ورقم السورة ورقم الآية.
* خرّجت الأحاديث والآثار الواردة عن الصحـابة من مراجعها الأصليـة، واتبعت المنهج الأتي:
1 ـ إذا كان الحديث ورد في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بذلك.
2 ـ أما إن لم أجده في الصحيحين أو أحدهما فقد اعتمدت السنن الأربعة، فإذا وجدتها فيها أو بأحدها اكتفيت به.
3 ـ فإذا لم أجده في السنن الأربعة أو بأحدها اعتمدت المسانيد والمصنفات، وكنت أتوسع حسب ما تقتضيه الحاجة.
4 ـ واعتمـدت في الحكم على الحديث على أقـوال العلـماء الـواردة في المصنفات وكتب التخريج أو الشروح أو دراسات العلماء المعاصرين، فإن لم أجد درست السند.
* وترجمـت للأعلام الذين ورد ذكرهم ترجمة مختصرة ما عدا المشـاهير منهم: الصحابة وأمهات المؤمنين ورواة الحديث والأئمة الأربعة.
*شرحت معاني الكلمات الغامضة من كتب اللغة أو من كتب غريب الحديث إذا كان اللفظ وارداً في الحديث، أو من الكتب العلمية المختصة وضبطتها بالشكل.
* واعتمدت الإشارات والرموز الآتية في البحث:
* الإشارات:
1 ـ ﴿ ﴾ للآيات.
2 ـ ’ ‘ قول النبي صلى الله عليه وسلم.
3 ـ [ ] القوسين المعكوفين لحصر اسم السورة: ورقم السورة: ورقم الآية.
4 ـ (/) لحصر الجزء والصحيفة.
5 ـ ’ ‘ لحصر الكلام المقتبس.
6 ـ ... دليل الحذف.
7 ـ = للفصل بين التاريخ الهجري والميلادي.
* الرموز:
8 ـ أ: أستاذ.
9 ـ ت: توفي.
10 ـ د: دكتور.
11 ـ د. ت: دون تاريخ.
12 ـ د. د: دون دار.
13 ـ د. ط: دون طبعة.
14 ـ د. م: دون مدينة.
15 ـ ص: الصحيفة.
16 ـ ط: الطبعة.
17 ـ م: ميلادي ومهندس.
18 ـ ﻫ: هجري.
* عملت فهارس تفصيلية لمحتويات الرسالة وهي كالآتي:
1 ـ فهرس الآيات الكريمة ورتبته حسب ورودها في المصحف.
2 ـ فهرس الأحاديث والآثار ورتبته حسب الحروف الهجائية.
3 ـ فهرس الأعلام والتراجم ورتبته حسب الحروف الهجائية.
4 ـ فهرس المصادر والمراجع، ورتبت القرآن الكريم أولاً، ثم كتب التفسير، ثم السنة وشروحها، ثم أصول الفقه، ثم القواعد الفقهية، ثم الكتب الفقهية، مرتبة كل مذهب على حِدة، مبتدئة بالحنفية، ثم المالكية، ثم الشافعية، ثم الحنابلة، ثم الفقه العام والمعاصر، ثم الكتب العلمية المختصة بموضوع البحث، ثم كتب اللغة، ثم كتب التراجم، ثم أسماء المواقـع التي استخدمت على الشابكة، مع ملاحظـة الترتيب الهجائية عند كتب كل علم.
5 ـ فهرس المحتوى ويضم ما دُرس في هذا البحث.
* الصعوبات التي واجهت الباحثة:
لا يخلو بحث يُدْرَس من صعوبات يجدها الباحث، فكثيراً ما تحتاج كتب الأقدمين إلى الصبر على فهمها، فكنت أجد مثلاً في أمهات الشافعية أراء للحنفية والمالكية وبالعكس، مما يصعب أحياناً استخلاص رأي صاحب المذهب في هذه الآراء، ومنها تعدد آراء المذهب الواحد في المسألة الواحدة، واستخلاص ترجيح لرأي دون آخر من الصعوبات.
المجموعة | مكتبة الرسائل الجامعية العالمية |
الناشر | دار النوادر |
عنوان الناشر | دمشق |
سنة النشر (هجري) | 1433 |
سنة النشر (ميلادي) | 2012 |
رقم الطبعة | 1 |
نوع الورق | كريم شاموا |
غراماج الورق | 70 |
مصدر الورق | ياباني |
قياس الورق | 17 × 24 |
عدد المجلدات | 1 |
عدد الصفحات | 472 |
الغلاف | فني |
ردمك | 9789933459925 |
تأليف/تحقيق | تأليف |
تصنيف ديوي |
تحميل
كلمات مفتاحية
روابط مفيدة
بارك الله فيكم