القائمة
فقه السورة القرآنية
فقه السورة القرآنية
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده الذي أنزل الله عليه الكتاب:
يقـول الله تعالى: ﴿وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين(23)فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين﴾[البقرة: 23 ـ 24].
وبعد:
فهذا جهدٌ بشريٌّ متواضع لإدراك موضع من مواضع إعجاز كلام رب البشر، قَلَّ مَن تطرَّق إليه من السابقين، وَفق منهجٍ يعين على تلمُّس المعجزة الثابتة القائمة في ’السورة القرآنية‘، من حيث إنها القطعة المعجزة من القرآن، المتحدّى بها الناس جميعـاً بكل ألوانهم وأجيالهم، منذ زمن بعثة النبي ﷺ حتى زوال آخر الناس من على أرض الابتلاء.
وبين يديك إشـاراتٌ في ظلال هذه المعجـزة لِسِـتَّ عشرة سورة من القرآن، كل منها حجة بنفسها على الناس جميعاً، ينتظمها هذا الكتاب الذي يشـتمل على مقدمـة في الأصول العامة لمنهج البحث في البناء الموضوعي للسورة القرآنية التي تؤسس لهذا العلم، ثم ليفصح المنهج عن نفسه من خلال ثمراته المتمثلة في السور التي تم البحث فيها وَفق أصوله بعد مراجعة غالب كتب التفسير المعروفة قديمها وحديثها، وحصد خير ما فيها من جهود مباركة طيبة، تعاقبت عليها أمم من علماء اللغة والحديث والتفسير، ثم إعادة عرض السورة وفق دراسة بنائها الموضوعي، ومقصدها الكلي، وصولاً إلى البرهان الحيِّ على مصدر هذا القرآن، من خلال الوعي بالمعنى الكلي المعجز الذي تشتمل عليه السورة القرآنية الواحدة.
ويمكن للقارئ تذوُّق هذه الثمرات، والحكم على هذا المنهج من خلال ما تحدثه في النفس من انبهـار ويقين بالمعجزة القرآنية، مقارنة بالمتحصل من أسلوب التفسير التحليلي المُتَّبع.
* الفرق بين ثمرات منهج البناء الموضوعي ومناهج علوم البيان:
إن الفارق النوعي بين هذا النوع من الإعجاز والإعجاز البياني الذي يمتاز به النظم القرآني هو: أن النوع الثاني من الإعجاز يتعامل مع أسلوب استخدام الأداة اللغوية للتعبير عن المعنـى الدقيق المراد، وفق أعلى طبقات البلاغة التي هي أبعـد من أن تنالها العقول المبدعة إنشـاءً أو محاكاة، وهو إعجـاز (مدهش) أطنب السابقون في وصفه وبيانه.
وأما الإعجـاز الأول المقصود هنا فهو: إعجاز المعنى الكلي القائم بالسورة ذاتها، من حيث كونها القطعة المتحدّى بها من القرآن، وهو إعجاز من نوع متفرد بنّاء، يقف أمامه الوعي الإنساني خاضعاً أيّاً كانت بيئته ولغته، بمجرد وعيـه ذلك المعنى، وصدقه في إرادة الحق، وعدله في الحكم على مصدر هذا المعنى.
فهذا الإعجاز مختلف في طبيعته عن الأنواع الأخرى من الإعجاز القائمة في القرآن، كالإعجاز العلمي، أو التاريخي، أو الرياضي، أو البياني، وكلها أنواع (مدهشـة) من الإعجاز، أصلها إرادة الله تعالى لأن يعين قلوب الناس على الاسـتعداد لتقبل الحق الذي أنزله، كما قال تعالى: ﴿سنريهم أياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد﴾[فصلت: 53].
وإذا قال أهل البلاغة: إن إعجاز القرآن كامن في بلاغته، أو في أسلوب استعمال اللغة للتعبير عن المعنى، فإن هذا قد يكون صحيحاً عند إطلاقه على الآية أو الجملة القرآنية، ولكنه ليس بدقيق حين يراد بالإعجاز إعجاز ’السورة القرآنية‘، فإعجاز السورة أعلى قدراً من مجرد استعمال الوسيلة (اللغة) للتعبير عن المعنى، بل هو متعلق بـ ’المعنى الكلي‘ الذي تؤلفه تلك الجمل التي تنتظمها السورة، والذي هو أعلى قدراً من قدرة الوعي الإنساني على إنتاجه أو الإتيان بمثله، عدا إن الإعجاز في استعمال اللغة لا يتحدى به سوى مَنْ يتقن لغة العرب، ولا يتذوقه بشكل تام سوى العرب، في حين أن القرآن حجة على العالمين.
إن هذا النوع من الإعجاز لا يهدف إلى مجرد إثبات أصل القرآن ومصدره فحسب، وإنما يتعدى ذلك إلى بناء الروح الإنسانية التي بثها الله: ﴿ونفخت فيه من روحي﴾[الحِجْر: 29] بمصدر من جنس مصدر تلك الروح: ﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا﴾[الشورى: 52]، حيث تملك كل سورة روحاً حية، تكمن في المعنى الكلي القائم بها والقائمة به، تجعل ذلك المعنى الكلي في مقامٍّ فوقيٍّ يعلو دوماً القدرة الإنسـانية على محاكاته أو التعالي عليه، مهما أوتيـت من علم أو عبقرية إو إرادة للتحدي.
وإن كل سورة هي لبنة كبرى، تدفع بالروح الإنسانية درجات إلى أعلى في مقامات معرفة الله، وفي أنماط الاستعداد الأرقى للقائـه، والذي يجعل من فرصة الحياة نوعاً عالياً من أنواع الوجود، يؤهل الفرد والمجتمع بحسب قدرتهما على استثماره ـ وفق ذلك النهج ـ إلى: ما لا ينتهي من آفاق الاستخلاف في وجودٍ أرقى خلقه الله تعالى.
وإن هذا القرآن: حق ومعجزة، ’وإعجازه ليس غاية في ذاته، بل هو حقيقة القرآن الخالدة، ومعجزته الكبرى: قدرته الخلّاقة على تكوين أمة ـ على مدى الأزمان ـ تعمر الأرض وفق المبادئ والأهداف الإلهية، أمة تكون مناراً وقدوة، وتتكبد التضحيات الجسام لتحرير الإنسان‘، ليظهر هدى الله على الدين كله ولو كره الكافرون.
* علاقة هذا النوع من البحث بالتفسير الموضوعي وأهميته:
إن بيان المنهج الخاص بهذا النوع من التفسير تكفلت به المقدمة التالية عن ’أصول منهج البحث في البناء الموضوعي‘، حيث تمَّ استعراض أسس المنهج التي بُني عليها ذلك البحث، في التعامل مع السورة القرآنية، للوصول إلى رسـم ملامح تلك المعجزة قدر الإمكان، والتي لن تنفك تعطي ملامح أدق مدى الأزمان ومع تنوع العقول.
وفي حقيقة الأمر: فإن البحث في البناء الموضوعي للسورة القرآنية نوعٌ من أنواع ما اصطُلح عليه عند المتأخرين بـ ’التفسير الموضوعي‘، وهو أسلوب من أسـاليب التعامل مع النص القرآني من حيث وحدته الموضوعية، ينتظم إذا أُطلق خمسة أنواع:
النوع الأول: الوحدة الموضوعية في إطار المفردة القرآنية: حيث يتناول الباحـث فيه مفردة قرآنية كـ ’الرزق‘ أو ’الفقر‘ أو غيرها، ويتتبعها حيث وردت، ويسـتخلص منها المفهوم القرآني الشـامل لهذا ’المصطلح‘ القرآني. (وفي الملحق ـ 1 ـ أنموذج لهذا النوع من البحث).
النوع الثاني: الوحدة الموضوعية في إطار المفهوم القرآني: وهذا النوع أصعب من الذي سـبقه، حيث يتناول فيه الباحـث ’المعنى‘ أو ’المفهوم‘ الوارد في عدد من الآيات من سور مختلفة، تختلف فيها المفردات اللغوية المستعملة للتعبير عن المفهوم المعين، ويستخرج منها جميعاً صورة شاملة لهذا المعنى أو المفهوم.
وترى هذا النوع عند الأفذاذ من العلماء كأئمة المذاهب، والمحققين من أهل العلم كأبي حامد الغزالي (ت: 505ﻫ)، وعز الدين بن عبد السلام (ت: 660ﻫ)، وابن تيمية (ت: 728ﻫ)، ومَنْ في طبقتهم رحمهم الله تعالى، (وفي الملحق رقم ـ 2 ـ أنموذج لهذا النوع من البحث).
النوع الثالـث: الوحـدة الموضـوعية في إطار الجملـة القرآنية: وهو ما اصطُلح عليه بـ: ’علم المناسـبة‘، ويتناول مناسـبة ورود الآية المعينـة وعلاقتها بما قبلها وبما بعدها من آية أو آيات، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب التفسير منه، مع علو طبقة بعض المفسرين على بعض، كالرازي (ت: 606ﻫ)، وابن عاشور (ت: 1393ﻫ) في هذا الباب، أو تخصص بعضهم فيه كالبقاعي (ت: 885ﻫ) رحمه الله في تفسيره ’نظم الدرر‘.
النوع الرابع: الوحدة الموضوعية للسورة القرآنية: وهو ما اصطُلح عليه بـ: ’علم المقاصد‘، ويشتمل على ثمرات جهود أجيال وأمم من العلماء الذين شرَّفهم ربهم بالعمل لبيان كتابه، من أهل ’التفسير التحليلي‘، تضاف إليها ثمرات البحث في الأنـواع الثلاثة السـابقة من ’التفسـير الموضوعي‘، لتحصيل العلم بالبناء الموضوعي لـ ’السورة القرآنية‘، وهو المقصود هنا في هذا الكتاب، بكل ما يتناوله من علوم خصائص السورة القرآنية، في مفرداتها ومفاهيمها ومناسبات الآي فيها، ومقدماتها، وخواتيمها، والدلالة الاعتبارية للأقوام المذكورة فيها أو للشخصيات التاريخية الوارد ذكرها، ومواقف الأنبياء، ومفاهيم الحياة والموت وما بعدهما، وطبيعة زوايا تلقي الآيات، وأسلوب السـورة اللغوي، وأمثالها مما سـنبينه من الخصائص المؤدية إلى فهم روح السورة المعنوي الكلي.
النوع الخامس: الوحدة الموضوعية للقرآن الكريم: وهو علم لمّا ينضج بعد؛ لأنه ثمرة ’علم المقاصد‘ وفقه البناء الموضوعي للسورة القرآنية الواحدة، مما يؤدي إلى فقه سر ورودها في القرآن بهذا الترتيب الثابت.
ومع ادعاء بعض أهـلِ العلم المعرفـة بهذا النوع من التفسـير، ولكن محاولاتهم جاءت متكلّفة وتفتقر إلى الدقة، ما دامت غير مستندة إلى فقه مقصد السورة القرآنية فقهاً علمياً، وتجد في خاتمة هذا الكتاب محاولة لفقه سر ترتيب ما ورد فيه من سور، هي من ثمرات البحث الوارد فيه.
ولهذا المنهج أهمية عظيمة، ليس هنا موضع تفصيلها، ويكفي مجرد ذكر أنه يشتمل على البرهان الحي للوعي الإنساني على مصدر القرآن، حين يتم البرهنة على أن كل سورة من السور التي اشتمل عليها القرآن العظيم حجة بذاتها، وأن إعجازها أبعد من مجرد بلاغة استعمال اللغة؛ لأنه يتعداها إلى البرهان على إعجاز معناها الكلي الذي هو حجـة على الناس بكل لغاتهم، عدا أنه يبين أن لكل سـورة منهجاً تربوياً ولمسـة مستقلة تبني لبنة في الروح الإنسانية، تختلف عن تلك التي تؤديها ما سواها من السور.
كما أن من ثمرات فقه المقاصد حسم كثير من الدلالات الخلافية للآيات، التي تنوعت اجتهادات أهل التفسير التحليلي فيها، من خلال دلالة السياق والمقصد الكلي، إضافةً إلى أن هذا النوع من العلم سيكشف تدريجياً علم ’الوحدة الموضوعية للقرآن‘، بكل ما يعنيه من إعجاز معنوي أعظم.
ولعل ثمرات هذا الكتاب تدفع إلى اهتمام أكبر بالموضوع، يقود إلى الإعداد لنوع من العمل المؤسسي الجماعي على طريق التحول من فقه (الفرد) إلى فقه (الأمة) لكتابها الأعظم، ويكون من ثمراته ’إحياء فقه مقاصد السورة القرآنية‘ بجهد أكثر دقة وتنظيماً.
ختاماً نقول: ليـس من عبارة تؤدي الإعجـاز حقه وتصفه بما هو؛ إذ يظل اللفظ القرآني والروح القرآني المنبعث من اللفظ عبر سلسلة المعاني التي تشكل السورة القرآنية ظاهرةً متفردةً لا تؤدى كما هي إلا عبر النص نفسه، ذلك أن ’طرائق العرض البشـرية في هذا الباب كائنة ما كانت، لن تبلغ شيئاً مما تبلغه العبارة القرآنية والمنهج القرآني وطريقة العرض القرآنية، وهي ليست قاصرة عن أن تبلغ شـيئاً مما يبلغه القرآن فحسب، بل ربما كانت مبعدة عن الحقيقة ـ كما هي صورتها القرآنية الفريدة البهية ـ مهما بلغ الكاتب من تحري المنهج القرآني وإدراك خصائصه‘( )، ولا يحيط بعظمة كلام الله وإعجازه لبني آدم سوى الله سبحانه، وذلك سر الفرق بين ما يكون من الخالق وما يصدر عن المخلوق: ’سنة الله في آياته التي يصنعها بيديه ألّا يزيدك العلم بها والوقوف على أسرارها إلا إذعاناً لعظمتها وثقةً بالعجز عنها، ولا كذلك صناعات الخلق، فإن فضل العلم بها يمكنك منها، ويفتح لك الطريق إلى الزيادة عليها‘( ).
وكل ما ستراه هنا ليس سوى علامات تعين على تلمس بعض تلك الروح (المعجزة) في السورة، فكل سورة هي حجة مذ أنزل الله القرآن، على كل من تطأ الأرض قدماه حتى قيام الساعة، في تعريفه بالله وإعداده للقائه، ولكل منا روح متفرد في اقتياتـه من روح القرآن والارتفاع بها؛ لأن كلاً منا لا يتكرر إلى قيام الساعة، وسيكلمه ربه ـ إن شاء الله ـ مخلياً به يوم القيامة، وله أن ينهل من كل سورة ما يرفعه استعدادًا لذلك اللقاء، فكل سورة معنى كلي إعجازي قائم بذاته، لا يعيق عن تلمـس روحها في كيان الروح الإنساني سوى معاناة العمل بما تعلَّم من الحق، فاقرأ قراءة مَنْ كان له قلب أو ألقى السمع، ووهب من روحه لروح القرآن، حتى ينفتح القرآن لروحه، وتنفتح روحه لروح القرآن: ﴿إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد﴾[ﭑ: 37].
   المجموعةمجموعة جائزة دبي للقرآن الكريم
   الناشردار النوادر
   عنوان الناشردمشق
   سنة النشر (هجري)1432
   سنة النشر (ميلادي)2011
   رقم الطبعة1
   نوع الورقكريم شاموا
   غراماج الورق40
   مصدر الورقياباني
   قياس الورق17×24
   عدد المجلدات1
   الغلاففني
   تأليف/تحقيقتأليف
   تصنيف ديوي
USD0
https://m.daralnawader.com/فقه-السورة-القرآنية
 تحميل
 كلمات مفتاحية
 تعليقات الزوار
اسم المستخدم
كلمة المرور
 مشاركة
FacebookTwitterLinkedInGoogle