إن فن الخلاف: علمٌ يعرف به كيفيةُ إيراد الحجج الشرعية، ودفع الشبهة وقوادح الأدلة الخفية، بإيراد البراهين القطعية، وهو الجدل الذي هو من أقام المنطق، إلا أنه خُصَّ بالمقاصد الدينية.
ولقـد كان الإمام القاضي أبو يعلى بنُ الفراء من أقعدِ الأئمةِ بهذا الفن، فقد برع في علم الخلاف؛ إذ يقضي هذا العلم أن يتمكن العالمُ من مذهبه، والإحاطة بأصوله وفروعه، ثم يتمكن من مذهب غيـره وأدلتهم، ثم يقوم بعد ذلك بهدم وإبطال حجة المخالفين، ونصرة مذهبه.
ومن أجود ما وقفنا عليه في هذا الباب من مصنفاتـه كتابـهُ ’التعليقة الكبيرة‘، وهو كتاب ضخم في أحد عشر مجلداً، وصلَنا قطعة منه اشتملت على المجلد الرابع فقط، يتضمن مسائلَ من كتـاب: الاعتكاف، والحج، وبعض البيـوع بلغت ثلاث مئة وإحدى وثلاثين مسألة.
وتبرز أهمية هذه القطعة؛ بكونِ مؤلفِها الإمامِ القاضي أبي يعلى، الذي قال فيه ابنُ عقيل: لم أدركْ فيما رأيتُ من العلمـاء ـ على اختلاف مناهجهم ـ مَنْ كمُلت له شرائطُ الاجتهاد المطلَق إلا ثلاثةً: أبا يعلى بنَ الفراء، وأبـا الفضل بنَ الهمـذاني، وأبـا النضر بنَ الصباغ.
وقد أرسل شيخُ الإسلام ابن تيميـة من سجنـه يطلب من إخوانـه إرسال تعليق القـاضي أبي يعلى، فقـال: وترسلون ـ أيضـاً ـ من تعليق القاضي أبي يعلى الذي بخـط القاضي أبي الحسين إن أمكن الجميـع، وهو أحدَ عشرَ مجلداً، وإلا، فمن أوله مجلداً أو مجلدين أو ثلاثة، وذكر كتباً يطلبها منهم.
ولو قُـدِّر لهذا الكتاب أن يُحفظ على مر السنين، لكان مرجعَ كل فقيه حنبلي، فمؤلفُه شيخ الحنابلة في عصره، إليه يُرجَع في الروايـة والتصحيح والترجيح على مذهـب الإمام أحمد، والكتاب نفسُه نبعٌ استقى منه علماء الحنابلة على مرِّ الزمان، فنقلوا عنه راضين به، مطمئنِّين إليه.
وقد وجدنا في القطعة من الفوائد ما يحثُّ على نشرها، لا سيَّما ما ذكره من روايات عن الإمام أحمد، لم نجد أكثرها في شيء مما بين أيدينا من المصادر، كما أن مطالعه يستطيع أن يلتقط من فوائد هذا الكتاب دُرراً، ويشحذ بمُحاكماته فِكْراً، ويزداد من فقهه نُبلاً، ومن فيضه علماً.